كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {وما تلك} مبتدأ وخبر و{بيمينك} حال منتصب بمعنى الإشارة أو الاستفهام. وجوّز الكوفيون أن يكون {تلك} اسمًا موصولًا صلته {بيمينك} أي ما التي بيمينك. قيل: لم يقل بيدك لأنه يحتمل أن يكون في يساره خاتم أو شيء آخر وكان يلتبس عليه الجواب.
أسئلة: ما الفائدة في هذا السؤال؟ جوابه أن الصانع الماهر إذا أراد أن يظهر من الشيء الحقير كقطعة من حديد شيئًا شريفًا كاللبوس المسرد عرضه على الحاضرين ويقول ما هذا حتى إنه بعد إظهار صنعته يلزمهم بقولهم ويقول: خذوا هذا من ذلك الذي قلتم فكأنه سبحانه قال لموسى: هل تعرف حقيقة ما في يمينك وأنه خشبة يابسة حتى إذا قلبه ثعبانًا عظيمًا كان قد نبهه على كمال قدرته الباهرة. وقال أهل الخطابة: إنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء، وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ممازجًا باللطف والقهر والتكاليف تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له {وما تلك بيمنك يا موسى} ليعرف موسى أن يمينه هي التي فيها العصا. وأيضًا إنه لما تكلم معه بالكلم الإلهية وقرب موسى أن يدهش تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة لا لأن المسؤول عنه مما يقع فيه الغلط كما أن السائل لا يجوز عليه الغلط نظيره حال المؤمن في القبر يغلبه الوجل والخجل فيسأل عن أمر لا يشك فيه في الدنيا وهو التوحيد دفعًا للإيحاش وجلبًا للاستئناس. وأيضًا لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر ما ذكر، فعرّفه الله تعالى أن فيها منافع أجل مما ذكر تنبيهًا على أن عقول البشر قاصرة عن خفيات الأمور لولا التوفيق والإرشاد. آخر: خاطب موسى بلا واسطة خاطب محمدًا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبرائيل، فيلزم أن يكون موسى أفضل. وجوابه المنع بدليل {فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 10] وبيان الأفضلية أن كلامه مع موسى لم يكن سرًا وكلامه مع محمد سر لم يستأهل له سواه. وأيضًا حصل لأمته في الدنيا شرف التكليم؛ المصلي يناجي ربه، وفي الآخرة شرف التسليم والتسليم {سلامٌ قولًا من ربٍ رحيمٍ} [يس: 58]. وأيضًا إن موسى كان عند استغراقه في بحر المحبة متعلقًا بالعصا ومنافعها ومحمد عليه السلام لم يلتفت إلى الكونين حين عرضا عليه {ما زاغ البصر وما طغى} [النجم: 17] بل كان فانيًا عن الأغيار باقيًا بالواحد القهار ولهذا لم يزد في الثناء حينئذٍ على قوله «أنت كما أثنيت على نفسك».
وههنا نكت منها: أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليد بقوله: {وما تلك بيمينك يا موسى} حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز ماهر فصار أحدهما- وهو الجماد- حيوانًا والآخر- وهو الكثيف- نورانيًا لطيفًا.
ثم إنه تعالى ينظر في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حيًا مستنيرًا. ومنها أن العصا صارت بين يمين موسى حيًا فكيف لا يصير قلب المؤمن الذي هو بين أصبعين من أصابع الرحمن حيًا! ومنها أن العصا بإشارة واحدة صارت بحيث ابتلعت سحر السحرة كلهم فقلب المؤمن أولى أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء. ثم إن جواب موسى عليه السلام يتم بقوله: {هي عصاي} إلا أنه زاد على ذلك لأنه كان يحب المكالمة وكان المقام مقام انبساط وقرب فاغتنم الفرصة وجعل ذلك كالوسيلة إلى درك الغرض. وقيل: هو جواب سؤال آخر كأنه سئل فما تصنع بها فأخذ في ذكر منافعها. وقيل: خاف أن ينكر عليه استصحاب العصا كالنعلين. ومعنى {أتوكأ عليها} أغتمد عليها إذا أعييت أو قوفت على رأس القطيع وعند الطفرة والتركيب يدور على الشد والإيثاق. {وأهش بها} أي أخبط الورق بها على رؤوس غنمي لتأكله. والتركيب يدل على الرخاوة واللين ومنه رجل هش المكسر أي سهل الشأن فيما يطلب من الحوائج وهو مدح وهش الخبز يهش بالكسر إذا كان ينكسر لرخاوته. قال المحققون: إن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا ومحمد صلى الله عليه وسلم كان يتكل على فضل الله ورحمته قائلًا مع أمته {حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173] فورد في حقه {حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64] أي حسبك وحسب من اتبعك. وأيضًا إنه بدأ بمصالح نفسه في قوله: {أتوكأ عليها} ثم بمصالح رعيته بقوله: {وأهش بها على غنمي} ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر أمته {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33] «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» فلا جرم يقول موسى يوم القيامة نفسي نفسي ومحمد يقول «أمتي أمتي». ثم قال: {ولي فيها مآرب} هي جمع المأربة بضم الراء الحاجة وقد تفتح الراء. وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضًا ومثله الأرب بفتحتين والإربة بكسر الهمزة وسكون الراء. وإنما قال: {أخرى} لأن المآرب في معنى جماعة ونظيره الأسماء الحسنى. ومن آياتنا الكبرى قالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فتطول مكالمته وقالوا: انقطع بالهيبة كلامه فأجمل. وقيل: في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والجراب وغيرها، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصله بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه.
وقيل: إن موسى عليه السلام كان أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة فقال: إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها ولكنك لما سألت عنها وكلمتني بسببها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى. وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوًا وتكونان شمعتين بالليل. وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب، وكانت تقيه الهوام. قلت: هذه الخوارق إن كانت بعد نبوة موسى فلا كلام، وإن كانت قبلها ففي صحة الرواية بُعْدٌ وإلا كان الأنسب تقديمها عند تعدد المنافع. وعلى تقدير صحتها فلعلها إرهاص أو من معجزات شعيب على ما يروى أنه كان قد أعطاها إياه.
قال أهل النكت: إن موسى لما قال: {ولي فيها مآرب أخرى} أراد الله سبحانه أن يعرّفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها و{قال ألقها يا موسى} وبوجه آخر كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب، فأمر بتركهما تنبيهًا على أن السالك ما دام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلًا بنفسه وطالبًا لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان. وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا، فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه؟! قال الكلبي: الاستطاعة قبل الفعل لأن القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يديه فذاك قولنا، أو توجد وهي خارجة عن يده وذلك تكليف بأنه يلقي من يده ما ليس في يده. ويمكن أن يجاب بأن القدرة مع إلقاء العصا. قوله: {فإذا هي حية تسعى} [الأعراف: 107] وفي موضع آخر {فإذا هي ثعبان} وفي آخر {كأنها جان} [النمل: 10] عبارات عن معبر واحد لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والعظيم. وأما الثعبان- وهو العظيم من الحيات- والجان- وهو الدقيق منها- فبينهما تنافٍ في الظاهر لا في التحقيق، لأنها حين انقلابها كانت تكون حية صفراء دقيقة كالجان، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى يصير ثعبانًا آخر الأمر. أو أنها كانت في شخص ثعبان وسرعة حركة الجان ولهذا وصفها بالسعي وهو المشي بسرعة وخفة حركة. والعجب أن موسى قال: {أتوكأ عليها} فصدّقه الله تعالى في ذلك وجعلها متكئًا له بأن كانت أعظم معجزاته.
وإنما قلبها حية في ذلك الوقت لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه فإن النداء والنور والكلام لم يكن في ظهور الدلالة كهذه، ولأن توالي المعجزات كتتابع الخلع والكرامات. وأيضًا لأنه عرضها عليه ليشاهدها ويوطن نفسه عليها حتى لا يخافها عند عدوّه؛ فالولي يستر العيوب والعدوّ يبرز المناقب في صورة المثالب، فكيف إذا وجد مجال طعن وقدح؟! وقد مر في الأعراف أن الحية كان لها عرف كعرف الفرس، وكان بين لحييها أربعون ذراعًا، فلما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفار ما يملك البشر عند الأهوال حتى ذهل عن الدلائل وأخذ يفر، ولو أنه بلغ حينئذٍ مقام {ففروا إلى الله} [الذاريات: 50] لم يفر عن شيء. أو لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في نقص الإمكان ولم يفاوت عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من الله وحده. فقد روي أنه لما قال له ربه: {لا تخف} بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها، قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري: ذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه ألبتة. وعن بعضهم أنه خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها.
قلت: يحتمل أن يكون خوف موسى وهجره إياها من فوات المنافع المعدودة ولهذا علل عدم خوفه بقوله: {سنعيدها سيرتها الأولى} قال جار الله: السيرة من السير كالركبة من الركوب. يقال: سار فلان سيرة حسنة. ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة ومنه سير الأولين، فيجوز أن ينتصب على الظرف أي في طريقتها الأولى حال ما كانت عصًا، أو يكون أعاد منقولًا بالهمزة من عاده بنزع الخافض بمعنى عاد إليه فيتعدى إلى مفعولين، أو يكون المراد بالإعادة الإنشاء ثانيًا. ونصب {سيرتها} بفعل مضمر في موضع الحال أي سنعيدها تسير سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها. ثم قوى أمره بمعجزة ثانية فقال: {واضمم يدك إلى جناحك} يقال: لكل ناحيتين جناحان ومنه جناحا العسكر وجناحا الإنسان لجنبهما. والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران أي يميلهما. فقيل: المراد بالآية تحت العضد بدليل قوله: {تخرج} وعن ابن عباس: معناه إلى صدرك. وضعف بأنه لا يطابقه قوله: {تخرج} قلت: لا شك أن الصدر مستور بالقميص فيظهر عند ذلك معنى الخروج ويفسره قوله في موضع آخر {وأدخل يدك في جيبك} [النمل: 12] والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة. والبرص أبغض شيء عند العرب بحيث تمجه أسماعهم فكان جدير بأن يكنى عنه.
ومعنى {بيضاء} أنها تنور كشعاع الشمس. قال في الكشاف: من غير سوء من صلة البيضاء كما تقول: ابيضت من غير سوء. قلت: لعله أراد أن {من} للتعليل أي ليس البياض هو السوء وإنما السبب غيره وحقيقته ترجع إلى الابتداء. و{بيضاء} و{آية} حالان معًا أو متداخلتان. واحتمل أن ينتصب آية بمضمر يدل عليه الكلام نحو خذ ودونك. وقوله: {لنريك} إما أن يتعلق بهذا المحذوف أو بمحذوف آخر أي لنريك {من آياتنا} فلعنا ما فعلنا. ولا يبعد عندي أن يتعلق بالأمرين المذكورين أي {ألقها} و{اضمم} لنريك قال الحسن: اليد في الإعجاز أعظم من العصا لأنه تعالى وصفها بالكبرى. وضعف بأنه ليس في اليد إلا تغير اللون وأما في العصا ففيه تغير اللون والزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة، فالمراد لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى. وجوز في الكشاف أن يكون المراد لنريك بهما الكبرى من آياتنا. ويرد عليه لزوم أن تكون الآيات الكبرى منحصرة فيهما وليس كذلك فإن معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكبر من الكل، وكفاك بالقرآن شاهدًا على ذلك. ثم صرح بالمقصود من المعجزات فقال: {اذهب إلى فرعون} وخصه بالذكر لأن قومه تبع له. ثم بين العلة في ذلك فقال: {إنه طغى} وعن وهب أن الله تعالى قال لموسى: استمع كلامي واحفظ وصيتي برسالتي فإنك بعيني وبسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر تقديسي، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار شديدة، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولًا لينًا لا يغتر بلباس الدنيا، وإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل. قال: فسكت موسى سبعة أيام ثم جاءه ملك فقال له: أجب ربك فيما أمرك فعنده {قال رب اشرح لي صدري} قال علماء المعاني: أنهم أولًا بقوله: {ربي اشرح لي} {ويسر لي} فعلم أن ثمة مشروحًا وميسرًا. ثم بين فرفع الإبهام بذكر الصدر والأمر وكان أوكد من جهة الإجمال. ثم التفصيل كان في صدر موسى ضيق كما جاء في موضع آخر {ويضيق صدري} [الشعراء: 13] فسأل الله أن يبدل الضيق بالسعة حتى يفهم ما أنزل عليه من الوحي. وقيل: أراد شجعني على مخاطبة فرعون وعلى تحمل أعباء الرسالة. واعلم أن الكلام في الدعاء وشرائطه وفوائده وسائر ما يتعلق به قد سبق منا في البقرة في تفسير قوله سبحانه: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} [الآية: 186].
ولنذكر هاهنا نكتًا شريفة: الأولى أنه تعالى كامل في الأزل إلا أنه غير مكمل في الأزل لأن التكميل هو جعل الشيء كاملًا ولا شيء معه في الأزل فلا تكميل، وذلك كما يقال: إنه سبحانه لا يعلم عددًا مفصلًا لحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه وحركات أهل الجنة غير متناهية فامتنع ذلك لا لقصور في العلم بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول. ولما كان الغرض من التكوين تكميل الناقصين، وكان الوجود أول صفة من صفات الكمال أجلس الله سبحانه على هذه المائدة بعض المعدومات، لأنه لو أجلس الكل عليها لدخل في الوجود ما لا نهاية له، ولانتهت القدرة الذاتية لامتناع إيجاد الموجود. وكما أن رحمته اقتضت وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون بعض حتى صار ذلك البعض حيًا مدركًا للمنافي والملائم واللذة والألم والخير الشر فقال: الأحياء عند ذلك يا رب الأرباب شرفتنا بخلعة الوجود وخلعة الحياة، ولكن ازدادت حاجتنا لأنا- حال العدم وحال الجمادية- ما كنا نحتاج إلى الملائم والمخالف والموافق، وما كنا نخاف المنافي والمؤذي، والآن احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي، فإن لم يكن لنا قدرة على الهرب والطلب كنا كالزمن المعقد في الطريق عرضة للآفات وهدفًا لسهام البليات، فاقتضت الرحمة الكاملة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض المعدومات بالوجود وتخصيص بعض الموجودات بالحياة فقال: القادرون عند ذلك: إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا للبهائم المسخرة في حمل الأثقال، فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك. فأعطى بعضهم العقل فحصل في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية ختامه مسك كما أن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كان أفضل المخلوقات، فنظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالحقة المملوءة من الجواهر بل كسماء مزينة بالزواهر وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بداية العقول وصرائح الأذهان، يهتدي بها السائرون في ظلمات بر الشكوك وبحر الشبهات، فاستدل العقل بتلك الأرقام على راقم، وبتلك النقوش على نقاش، فغلبته دهشة الأنوار الأزلية وكاد يغرق في بحر الفكر، ويضيق عليه نطاق التأمل والتدبر، ويقع في تجاذب أيدي الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الجن والإنس فعند ذلك قال: {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري} فانتهاء جميع الحوادث إليه وتيسير الأمور الكلية والجزئية من عنده، وهو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته.
الثانية: إنه تعالى خاطبه أولًا بالتوحيد {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} وثانيًا بالعبادة {فاعبدني} وثالثًا بمعرفة المعاد {إن الساعة آتية} ورابعًا بمعرفة الحكمة في جملة أفعاله {وما تلك بيمينك} وخامسًا بعرض المعجزات الباهرة عليه {لنريك من آياتنا الكبرى} وسادسًا بإرساله إلى أعظم الناس كفرًا وكانت هذه التكاليف الشاقة سببًا لضيق العطن وانحلال عقدة الصبر فلا جرم تضرع إلى الله سبحانه قائلًا {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري} وهاهنا دقيقة هي أن شرح الصدر.
مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب، والاستماع مقدّمة الفهم. ولما أعطى موسى المقدّمة بقوله: {فاستمع} نسج موسى على ذلك المنوال فقال: {رب اشرح لي صدري} ولما آل الأمر إلى محمد وكان خاتم النبيين ومقصودًا من الكائنات ومخاطبًا بقوله: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] أوتي النتيجة فقيل له {وقل ربي زدني علمًا} [طه: 114] ووصف بقوله: {وسراجًا منيرًا} [الأحزاب: 46] فشرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلًا للنور، والسراج المنير هو المعطي للنور: فالتفاوت بين موسى ومحمد عليهما السلام هو التفاوت بين الآخذ والمعطي ولهذا قال موسى: اللهم اجعلني من أمة محمد.